التاريخ:14/5/2014

يوميات مواطن عادي
(24)
قتل النساء… تفاعل مع الحدث أم رؤية شاملة؟

ترتفع حدة الجدل والنقاش في مجتمعنا الفلسطيني مع كل عملية قتل جديدة لإمرأة في مسلسل قتل النساء الذي يتدحرج ككرة الثلج، مخلفاً وراءه الكثير من المعاناة والألم الإنساني لأعداد متزايدة من الأفراد والأسر التي ترتبط إرتباطا مباشراً بظاهرة القتل نفسها. وتبدأ بالنسبة لهذه الأسر رحلة جديدة وطويلة من الإنعكاسات والتبعات الإجتماعية والنفسية.. وغيرها والتي ليس من المتوقع أن تنتهي في المدى القريب أو المتوسط. الأمر الأكثر ايجابية في إرتفاع حدة الجدل هو شمولية الجدل وإمتداده الى قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني. فلا تكاد يظهر الى العلن خبر حول عملية قتل جديدة لإحدى النساء، حتى تتسابق الى تناقله وتداوله بالنقاش قطاعات واسعة من المجتمع، بكل فئاته وشرائحه. وهنا تبدأ ردود الفعل بالظهور تباعاً، وهي بالطبع تتناسب مع الشخص أو الجهة التي تصدر عنها، وموقعه وموقفه في المجتمع، وتوجهاته العامة تجاه مختلف قضايا المجتمع، وتجاه المرأة بشكل خاص. وهكذا يتداول الحدث المواطنون العاديون على إختلافهم، هيئات ومؤسسات المجتمع، أيضا على إختلافها وتنوعها، رجال الفكر والدين والقانون والسياسة والإقتصاد والتشريع والقضاء والسلطات، وسائل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها. حيث يكاد المتابع العادي لكل تداعيات الحدث وردود الفعل عليه يشعر بأن هذا الحدث، أو عملية القتل هذه ستكون حدثاً فاصلاً في تاريخ مجتمعنا، وان المجتمع يعيش مرحلة مخاض ستسفر عن ولادة جديدة تنقله نقلة نوعية ومختلفة تماما عن كل ما سبق، فيما يتعلق بالموضوع.

كمتابع ومعايش لكل تفاصيل هذه الأحداث فإن لدي جملة من الملاحظات والتساؤلات التي أود طرحها للمناقشة العامة، علها تسهم في إعطاء بعض الوضوح لرؤية ضبابية لموضوع في غاية الدقة والحساسية بالنسبة لمجتمع يعيش مرحلة تحرر وتحول شاملة وواسعة في مختلف مجالات حياته، وفي ظل تعقيدات ترتبط فيها السياسة والإقتصاد والفكر والدين والثقافة المجتمعية السائدة مع القانون وحقوق الانسان في علاقة معقدة، ولا تقل تعقيدا عن خصوصيات نضال شعبنا من اجل التحرر من الإستعمار وتبعاته في كل مجالات الحياة. أما ملاحظاتي فإنني أوجزها بالتالية:

أولاً: أين دور المؤسسات النسوية؟ هو سؤال تلقائي ورد فعل يصدر عن مواطن عادي، يعكس ثقافته ووعيه حول هذا الموضوع، معتقداً أن حماية النساء هو واجب على المؤسسات النسوية فحسب. وقد يكون هذا في حدود ما هو مستوعب. أما أن يصدر هذا التساؤل عن مواطن ذو صفة مهنية متخصصة في مجال الإعلام، القانون، أجهزة ومؤسسات الدولة، القضاء والتشريع وغيرها من اصحاب المواقع والمناصب في المجتمع ومؤسساته، فذلك أمر مستغرب، ويتنافى مع أبجديات المنطق والعقل. النساء في مجتمعنا لسن “رعايا” دولة اخرى يعشن في مجتمعنا، وعلى تلك الدول “المؤسسات النسوية” ان تقوم بحمايتهن وتوفير الأمن لهن. النساء هنا نصف هذا المجتمع، وجزء متجذر في نسيجه وهويته. أما العجب الأكبر والإستغراب فهو من هذا التوجه الذي تجده أحيانا لدى نشطاء عدد من المؤسسات النسوية نفسها، وهو سؤال هنا لا يلبث أن يجد الإجابة في صورة من صور جلد الذات ومحاسبة النفس بصورة قاسية وعنيفة، قد تساهم في نشر الملل والإحباط، وربما الوصول الى طريق مسدود. أصحاب هذا التوجه بشكل عام لا يعلمون على مستوى الوعي والإدراك، أو ينسون على الأقل أن فكرة حماية النساء وتوفير الأمن والأمان لهن هي مسئولية الدولة والمجتمع ومؤسساته وأفراده على إختلافهم، لأنها فكرة تقوم على الدفاع من ناحية المبدأ عن حقوق الإنسان، كحقوق إنسان غير قابلة للتجزئة. وهي مبدأ لا ينطبق عليه المثل الشعبي “ما حك جلدك مثل ظفرك”. لأنه مثلاً لا يمكن القول أن الأطفال هم فقط المسئولين عن حماية حقوق الأطفال. إن حماية حقوق النساء، وحياتهن في المقدمة، هي مسئولية الدين والفكر والقانون والسياسة والتشريع والقضاء والإعلام تماماً وقبل أن تكون مسئولية المؤسسات النسوية لوحدها.

من زاوية مقابلة، هناك من يقع في هذا “الفخ” من الإتجاه الآخر، حيث نجد هناك توجه موجود لدى بعض المؤسسات والناشطات النسويات، وهو بالمناسبة الوجه الآخر للتوجه الذي تحدثت عنه أعلاه. ويقوم في جوهره على فكرة التجزئة، تجزأة القضايا والمفاهيم، وبالتالي تجزأة الإستراتيجية والفعل. وللتوضيح فإن هناك تساؤل حول معنى ومغزى كثافة التحرك عند كل عملية قتل للنساء، في حين لا يُسمع أي صوت عند حدوث عملية قتل لأي انسان آخر في هذا المجتمع، أو إنتهاك لحقوقه؟ واذا حدث فان الصوت لا يكاد يُسمع. هل هذا تأكيد على تجزئة القضايا والإهتمامات؟ أي تعميم للمفهوم الدارج بالمعنى العامي “حارة كل مين إيدو إلو”.

ثانياً: الاستراتيجي والمرحلي، وأقصد هنا حجم التداول الواسع الذي تحظى به أية عملية قتل، ومضمون ومحتوى التداول، وعلاقة هذا الأمر في التغيير المجتمعي. يظهر هنا أن هناك إشكالية في العلاقة بين ما هو إستراتيجي وبعيد المدى، وبين ما هو مرحلي أو آني وملموس، هذا إن كان هناك ربط أصلاً بين المستويين في هذا الموضوع. مثلاً كل وسائل الإعلام تتناول الحدث في الساعات والأيام التي تليه منتجة تقارير وحلقات مباشرة وغير مباشرة، وتستضيف خبراء ومختصين للنقد والتحليل للظاهرة وأبعادها في الجوانب الإجتماعية والإقتصادية والقانونية الحقوقية وغيرها من الجوانب بحث يظهر أن وسيلة الإعلام هذه، سواء كانت خاصة أو عامة، “تنحاز” كليا ضد ظاهرة قتل النساء، وهذا حقيقي وجيد بإعتقادي، لكن هل ينعكس هذا التوجه في البرامج المختلفة لنفس وسيلة الإعلام؟ وأقصد التوجه الذي يدعو الى مساواة النساء في كل المجالات، ورفض إنتهاك حقوقهن. من السهل على المتابع ملاحظة أن نفس وسيلة الإعلام التي تبث حلقة تتبنى فيها موقف منحاز ضد قتل النساء أن تبث بعد نهاية الحلقة، او قبل بدايتها، وربما خلالها إعلان تجاري يستخدم المرأة كسلعة، وهذا مجرد مثال، وليس تحليل لطبيعة ودور وسائل الإعلام، قد نجد تعبيراته في الفكر والسياسة والدين والقضاء وغيرها من مجالات الحياة. العبرة هنا بإختصار هي عدم وجود انسجام وتناغم بين سلسلة السلوكيات والأفعال، في بعض الحالات طبعا وليس للتعميم، تمكننا من تصنيفها في إطار توجه موحد وإستراتيجي كجزء من ثقافة وفلسفة عامة. هنا تظهر السلوكيات وكأن عبارة عن ردود أفعال تتناسب مع الحدث والمكان والزمان والبيئة التي يحصل فيها كل سلوك أو موقف، أو هي بالفعل كذلك. لذلك من السهل أن تجد رجل سياسة يقف ضد ظاهرة قتل النساء وهو في نفس الوقت يحتكر القرار السياسي لحزبه بيد الرجال، أو رجل دين يدين القتل وفي موقف آخر تجده يشرح أن وسائل التواصل الإجتماعي ساهمت في تفسيخ العلاقات الأسرية لانها فتحت المجال “للنساء” للتواصل مع العالم الخارجي. وهذا بالذات هو أحد أهم الأسباب بإعتقادي لإستمرار الظاهرة، بل ربما تصاعدها.
ثالثاً: التوجه القانوني، وسميته تجاوزاً بهذا الإسم، أما مضمونه في إعتقادي فهو يقوم على إستمرار الدعوة الى أن معالجة موضوع قتل النساء عبر تعديل أو تغيير التشريعات السائدة، بل إن بعضهم ذهب بعيداً الى درجة المطالبة بإقرار عقوبة الإعدام بحق قتلة النساء، و”كلما دق الكوز بالجرة” تجد أصحاب هذا التوجه يبادرون للدعوة الى تعديل قانون العقوبات أو بعض المواد فيه، أو إقرار مشروع قانون العقوبات المقترح. مع أنهم يعلمون تماماً أن المجلس التشريعي عاجز عن التشريع حالياً، وهناك إعتبارات عديدة تمنع الرئيس من إصدار قرار بقانون وفي هذا المجال “الحساس” في المرحلة الحالية. وعلى كل الأحوال المشكلة هنا تكمن في أن أصحاب هذا التوجه أنفسهم يدركون صعوبة أو ربما “إستحالة” تحقيق هذا، والسؤال هنا لماذا يستمرون في التكرار؟ علماً ان أحد جوانب التكرار قد تحمل في طياتها إحباط للجهود، لأن إستمرار عدم القدرة على تحقيق هدف معين ولفترة طويلة قد يحرك ويغذي عوامل الإحباط. لكن في إعتقادي ليس هذا هو الأهم في الموضوع، بل إن الأهم هو أن إستمرار التكرار وبهذه الصورة قد يعني أن “العصا السحرية” لظاهرة قتل النساء هي تغيير أو تعديل القانون فقط. مع العلم ان الظاهرة موجودة حتى في تلك الدول التي تمتلك اكثر التشريعات والقوانين تطوراً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القانون وحده غير قادر على التغيير الحاسم في أمور معينة، مثلاً حتى في تلك الدول التي تعاقب على بعض الجرائم بالإعدام فإننا نجد أن الإعدام لن يكون لوحده علاجاً لإنتشار الجريمة.
رابعاً: في العلاقة الجدلية بين القانون والثقافة المجتمعية، هي فعلا علاقة جدلية، على الأقل لم تحسم بعد مسألة ما هو مدى تأثير كل من القانون والثقافة المجتمعية أحدهما بالآخر؟ هل القانون هو إنعكاس وتعبير عن الثقافة المجتمعية في لحظة إقراره؟ أم هو تعبير عن طموح الثقافة المجتمعية؟ هل القانون جزء من الثقافة المجتمعية أو هو فوقها؟ وبمعنى آخر، هل يعكس القانون ونصوصه موازين القوى الإجتماعية لحظة تشريعه؟ هذه نماذج من أسئلة جوهرية وأساسية في علاقة القانون بظاهرة قتل النساء في مجتمعنا الفلسطيني. وهي أسئلة لها علاقة بالملاحظات التي أثرتها أعلاه.

في كل الأحوال، ومهما كانت الإجابات على الأسلة السابقة فإن تجربة مجتمعنا الفلسطيني، وتجربة مؤسساته المختلفة تشير الى أنه من الصعب، وربما من المستحيل إحداث تغيير جوهري في ثقافة المجتمع عبر التغييرات في الأنظمة والقوانين فقط، على الأقل تغيير على المدى المنظور والمتوسط. وهناك تساؤلات وإنتقادات عديدة حاليا، ليس فقط على تطبيقات القانون القائم والسائد حالياً رغم الانتقادات التي توجه له، وانما تمتد أيضاً الى مستوى سيادة القانون نفسه. مثلاً تساءل قبل أيام أحد الكتاب في مقالة حول هذا الأمر تحت عنوان عريض هو هل نريد دولة عشائرية أم دولة قانون؟ وفي المقالة إستعراض لمدى سيادة القانون ومكانته في واقعنا الحالي. وهذا سبب إضافي للملاحظات التي يمكن أن توجه الى أصحاب التوجه القانوني، فإذا كان القانون نفسه وسيادته محل تساؤل فما جدوى وأهمية الدعوة الى تغيير القانون لمعالجة ظاهرة قتل النساء؟!
في إعتقادي أن ظاهرة قتل النساء هي جزء لا يتجزأ من فلسفة وفكر يقوم على التمييز وعدم المساواة بين الرجال والنساء لصالح الرجال، وهو ما يسمى بالفكر الذكوري. وهو يمتلك من المقومات وعوامل القوة التي تمكنه من إعادة إنتاج نفسه في مختلف الثقافات، وعبر العديد من المؤسسات المجتمعية، وبأشكال وتجليات مختلفة ومتعددة. ومواجهة هذا الفكر، ولاحقاً التغلب عليه، لا يمكن أن تتم إلا من خلال فكر وفلسفة عمل شاملة وعلى المستوى الإستراتيجي. فلسفة قادرة على الفعل إستراتيجياً عبر سلسلة متقنة التنظيم والبناء على المستوى الآني والمرحلي، وتناسب ليس فقط الواقع والظرف القائم والقدرات المتوفرة، وانما تتناسب أيضا مع رؤية لكيفية توفير المتطلبات والإمكانيات للتغيير بالإتجاه المتراكم والصاعد الى الأعلى، عبر مراحل وخطوات مجزأة ومقسمة، ولكن دون إغفال للراوابط والعلاقات بينها والتي تصب في النتيجة النهائية.

إنهاء ظاهرة قتل النساء بصورة جذرية هو عمل يمس جوهر العلاقات القائمة بين الرجال والنساء، أو بين الذكور والإناث، والقائمة على خلل في موازين القوى يميل فيه الميزان لصالح الرجال. ولذلك فإن عمل بهذا المستوى الإستراتيجي يحتاج الى رؤية إستراتيجية شاملة توحد الأهداف وتنعكس على مناهج وأساليب العمل والأدوات والتكتيكات والمراحل. وهي رؤية لا تحتمل التجزئة أو التقطيع لأنها، في حال تجزءتها ستتحول الى مجرد خطوات، قد تكون في نتيجتها مجرد تساوق او تعايش مع الآليات التي يستخدمها الفكر الذكوري في إعادة انتاج نفسه بكل مكوناته بصور وأشكال مختلفة. أو على الأقل تنطبق عليها وجهة النظر التي ترى أن الفكر الذكوري يعيد تشذيب الفكر النسوي ويصيغ هويته من جديد إذا إفتقد للرؤية والفلسفة. فقط بالرؤية الإستراتيجية الشاملة يمكن أن تتحول ظاهرة قتل النساء من “حدث” يسارع الكثيرون الى التفاعل معه، والإجتهاد في الموقف المناسب رداً عليه، الى ظاهرة تحمل في مكوناتها بذور فنائها والقضاء عليها.
نبيل دويكات
رام الله- 14 أيار 2014

http://www.asdaapress.com/?newsID=2738
http://www.amin.org/articles.php?t=opinion&id=23986
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/05/15/329894.html
http://www.wattan.tv/ar/news/93417.html
http://zamnpress.com/zamn_blog/51000
http://www.rb2000.ps/ar/news/110747.html
http://hr.ps/ar/articles/51177.html
http://www.alhourriah.net/ar/?page=det&id=23850

 

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *