نسمع منذ عدة أشهر تصريحات مختلفة لعدد من قادة الإحتلال تدور في مجملها حول محاولات التشبيه والربط بين الشعب الفلسطيني وقياداته المختلفة وبين الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”. حتى المواطن العادي يدرك أن الهدف من هذا الربط هو كسب تعاطف الرأي العام العالمي الى جانب إسرائيل، وإظهارها بمظهر الحمل الوديع الذي يتعرض للعدوان من قبل الفلسطينيين. ويأمل قادة الإحتلال بهذه المحاولة التغطية على جرائمهم المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، والى الإستفادة من المزاج والرأي العام العالمي الرافض والمستنكر للجرائم وعمليات القتل والذبح التي تتفاخر “داعش” بالقيام بها، بل ونشرها على نطاق واسع. وقد درج الإحتلال على إستخدام هذا الأسلوب، فقد حاول أرئيل شارون في العام 2002 إستغلال الإجماع الدولي المناهض لتنظيم القاعدة وجريمته في الحادي عشر من أيلول عام 2011 بالقول أنه بإجتياحه لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية وحصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إنما يقوم بمهمة تشبه مهمة الولايات المتحدة وتحالفها الدولي في حربها ضد تنظيم القاعدة.
النظرة المجردة الى هذين المثالين تشير الى أن هناك خدمة متبادلة يقدمها كل من قادة الاحتلال و “داعش” و “القاعدة” لبعضهما البعض، فكل منهما يحاول تبرير وجوده وأفعاله عبر الإدعاء بأنه إنما يقوم بكل ما يقوم به من جرائم من أجل محاربة الطرف الآخر. إسرائيل إستخدمت حركات مثل “القاعدة”، و”داعش” ستاراً لتبرير عدوانها وجرائمها، وفزّاعة لإخافة الرأي العام العالمي. وإستخدمت “القاعدة” و “داعش” إسرائيل فزّاعة لتبرير جرائمهما بحق الشعوب العربية والإسلامية عموماً. ربما في المثالين ما يشير الى المقولة التي تحدث عنها الفيلسوف الثوري لينين منذ ما يقارب قرن من الزمان بأن “أقصى اليمين يصب في مصلحة أقصى اليمين”.
قبل عدة أيام تعرضت الصحافية عميره هس الى حادثة طرد خلال وجودها ومشاركتها في أحد المؤتمرات في جامعة بير زيت. وكان يمكن لهذا الحدث أن يمر مروراً “طبيعيا”، وهو ما حصل فعلاً بالنسبة للكثير من الهيئات والمؤسسات الاعلامية والحزبية والأكاديمية والوطنية وغيرها، التي تداولت الحادث، في أحسن الأحوال، كحدث لا قيمة وأهمية له، وإكتفت بمرور الكرام عنه. بالنسبة لي فإنني لن أكتفي بذلك، ولن أقبل بأن يمر حدث كهذا مرور الكرام. وذلك لأنني درست في هذه الجامعة منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وأنهيت قبل أربعة سنوات فقط دراسة الماجستير فيها ، وأعتبرها صرحاً وطنياً مثلما هي صرح أكاديمي شامخ. وكانت على الدوام رمزاً من رموز التعددية والفكر المنفتح. ومن ناحية ثانية فإنني أعرف الصحافية عميره هس شخصياً، ولدى بعض الإطلاع على ما تكتبه بحكم عملها. سألخص في فقرة واحدة ما أعرفه عن الصحافية، تاركاً للراغبين التوسع وفق ما يشاؤون في المعرفة عنها. ولذلك أعتقد أنه من المهم إستخلاص العبر من ذلك، وربما فيه من المؤشرات ما يساعدنا على فهم وتحليل بعض جوانب حياتنا وتوجهاتنا كمجتمع.
تعرفت على الصحافية عميره هس في مدينة رام الله قبل ما يقارب خمسة عشر عاماً، كانت تقول عن نفسها أنها “غزاوية” لأنها عاشت عدة سنوات في مناطق مختلفة من قطاع غزة كجباليا وخانيونس ورفح، وتحديداً في أكثر المناطق سخونةً في المواجهات مع الإحتلال الإسرائيلي. تسكن في مدينة رام الله منذ عدة سنوات، عايشت الاجتياح الإسرائيلي في العام 2002. كان صوتها وقلمها دائماً ضد الإحتلال وإعتداءاته وإنتهاكاته، ومع الشعب الفلسطيني وحقوقه بمختلف فئاته، حضورها دائم في التحركات الجماهيرية المختلفة كحملات التضامن مع الأسرى، ضد إعتداءات الإحتلال ومستوطنيه، جنازات وخيم التعازي بالشهداء .. وغيرها من التحركات الجماهيرية النضالية الفلسطينية. كتبت ضد الإحتلال والظلم، الفساد، العنف ضد الأطفال والأسرى، القتل “خارج إطار القانون”، العنف ضد المرأة… وكانت دائماً تنحاز ليس الى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة وحسب، وإنما أيضاً، وخصوصاً، الى جانب الفئات الضعيفة والمهمشة. وبالمناسبة حين تم طردها من جامعة بير زيت كانت تشارك في مؤتمر نظمته إحدى المؤسسات المعروفة والمسماة على إسم مناضلة يسارية ألمانية بهدف البحث عن بدائل للتطور الليبرالي.
إحدى المقولات الشعبية المعروفة جداً في مجتمعنا تقول “يَخلق من الشبه أربعين”، وهي تستخدم بكثرة في حياتنا اليومية حين نقابل إنسان ما ونكاد نجزم أنه إنسان آخر نعرفه أو قابلناه من قبل، وسرعان ما نكتشف انه ليس نفس الشخص، وإنما هناك الكثير من ملامح الشبه بين الشخصين. أما وجه الشبه بين المقولة وموضوعنا فهو وجود الكثير من ملامح تشابه عديدة يتركز أهمها حول مفهوم “التطرف”، وأنا هنا أقصد التطرف بمفهوم “المبالغة”، والمرتبط بمفاهيم مثل التعصب والإنغلاق وإنكار وجود الآخر، أو حقه في إبداء الرأي أو حتى في الوجود. وبمعنى آخر هي كلها مفاهيم تقوم على فكرة إدّعاء المعرفة والعلم وإمتلاك الحقيقة، أو القدرة على فهمها وإدراكها. وهي بهذا المعنى تعني التقليل من شأن وقدرة الآخرين ووصمهم بالقصور عن معرفة وفهم الحقيقة. وهو المنطق التي يبيح لصاحبه أو المدّعي به تبرير وتسويق أي سلوك تحت يافطة أنه هو وحده من يعلم الحقيقة، وعلى الآخرين تقبّلها منه كما يراها، لأن من يرفض ذلك إنما هو رافض للحقيقية والواقع، ولذلك فإنه مسموح التخلص منه، بل ذلك ومرغوب ومطلوب، لأنه من وجهة النظر هذه إنما يعاكس إرادة “مصدر” الحقيقة، ويعطّل مسيرة الشعوب والحياة. في هذا التوجه لا توجد فروق كبيرة في المضمون بين من كل من يدّعي ذلك، وهو توجه موجود لدى كل الشعوب والديانات والفئات والطبقات والدول والحركات والمفكرين. لا فرق في ذلك بين متدين مسلم كان أم مسيحي، يساري أو علماني أو غيرها من الأفكار والديانات والفلسفات. كلهم في المنهج سواسية.
في حالتنا هنا “داعش” تقطع الرؤوس وتقتل الأطفال وكبار السن وتهدم المدارس ودور العلم وحتى دور العبادة وتبيع النساء والفتيات “سبايا”.. وغيرها، وتقوم بكل ما تقوم به تحت يافطة “دولة الإسلام” لملامسة عاطفة ومشاعر المسلمين وكسب تعاطفهم، في حين أن الإسلام، وكل الديانات الأخرى لا تجيز، بل وتحرّم مثل هذه الممارسات. أما إسرائيل فإنها تهدم وتدمر، تعتقل وتعذب وتقتل وتنتهك كل المحرّمات والحرمات تحت شعار “الدفاع” عن الديمقراطية والسلام والأمن، وأيضاً لملامسة عاطفة ومشاعر دول “الغرب” وكسب تعاطفهم في مواجهة “الإرهاب”، وهي ترى في نفسها الدولة النموذج للعالم الحر في منطقة الشرق الأوسط. في حادثة الصحافية عميرة فإن التفسير المُعلن لطردها من الجامعة هو الموقف ضد “التطبيع” مع الإحتلال. وهكذا هو الحال هنا أيضا نجد من يدّعي أنه يمتلك وحده حقيقة “التطبيع” والموقف منه، ويعطي لنفسه الحق بالتصرف على هذا الأساس، دون التفكير أو التمحيص أو حتى السؤال.
بالنسبة لصحافية مثل عميره هس فإن ذنبها الوحيد، في نظر البعض، هو أنها يهودية الديانة أو لأنها تحمل الجنسية الإسرائيلية أو تعمل في إحدى الصحف الإسرائيلية. وأنا أكتب هنا ليس من أجل طرح حجج للدفاع عنها، بل أكتب من أجل طرح ومناقشة الفكر والمنهج، وهذا هو الأخطر بإعتقادي. قبل أكثر من عام وحين كتبت عميره مقالاً أشارت فيه الى أن رشق الحجارة هو حق وواجب فطري لمن يقعون تحت الإحتلال، كتب أحدهم معلقاً بأن كلامها هذا ليس سوى “دس السم في العسل”، وقدم شرحاً نظرياً توصل الى نتيجة مفادها بالقول أنها مجرد عدو.
صحيح أن السبب المباشر لمقالتي هو للتعبير عن موقفي مما حصل مع الصحافية عمير هس وتضامناً معها. لكن إهتمامي بهذا الموضوع نابع أيضا من الرغبة في طرق الجدران مما قد تؤشر اليه هذه الحادثة، ليس في المجتمع وحسب، وإنما أيضاً وبالذات في مؤسسة وصرح أكاديمي شامخ يفتخر الكثير من أبناء وقادة شعبنا الفلسطيني في كافة مجالات الحياة بالإنتماء إليه، وشكل ولا يزال، أو على الأقل يُفتَرَض أن يشكل،حالة ونموذج مختلف ومعاكس تماماً لفكر ونهج التعصب والإنغلاق، بل نهج الفكر والنقاش والإنفتاح، وهو وحده الفكر الذي يقود الى التنمية وتطوير المجتمعات. وإهتمامي أيضا بذلك ناتج من عدم الرضا عن حجم وطبيعة المواقف وردود الفعل على ما حصل مع الصحافيه. وهذا بإعتقادي مؤذي وخطير على مستقبل مجتمعنا. علينا التفكير ملياً في هذه الحادثة ومؤشراتها، رغم صعوبة واقعنا في كل المجالات، وإلا فإننا سنجد أنفسنا في يوم من الأيام نواجه الفكر “الداعشي” مع أربعون شبيهاً له.

نبيل دويكات
رام الله- 8 تشرين أول 20214
http://www.wattan.tv/ar/news/108224.html
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/10/08/344173.html
http://zamnpress.com/content/60892
http://www.rb2000.ps/ar/articles/121734.html
http://www.asdaapress.com/?newsID=6579
http://arabic.pnn.ps/index.php/ideas/101845
http://www.amin.org/articles.php?t=opinion&id=25068

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *