IMG_20160608_185129

 

في مثل هذا اليوم من عام 1990كنت قد أنهيت فترة اعتقال إداري لمدة ستة شهور[i]، وكنت أنتظر بفارغ الصبر الافراج عني من معتقل أنصار (3) في النقب حيث قضيت معظم فترة الاعتقال. كانت عادات الاسرى في المعتقل، وغيره من المعتقلات، تنظيم حفلة مسائية في الليلة التي تسبق الافراج للتعبير عن فرحهم وسرورهم وتهنئتهم للأسير الذي سيتم تحريره. وخلال الاحتفال الذي كان يستمر حتى بزوغ الفجر، كان معظم الاسرى يتجمعون مع بدايات الليل في الخيمة التي يقيم فيها الأسير نفسه، وتجري مراسيم الاحتفال الرسمية ببضع كلمات من الحركة الاسيرة او التنظيمات والأحزاب المختلفة، ثم يجري توزيع الحلويات المتوفرة، وبعدها تنطلق فعاليات تستمر طوال الليل تقريبا، تغلب عليها الأغاني والأناشيد الوطنية والنضالية، ويشارك في بدايتها معظم الاسرى في القسم الذي يقارب عدد الخيم فيه (10) خيم في كل منها ما يقارب (25) أسيراً. ولا يلبث عدد المحتفلين أن يتقلص مع تقدم ساعات الليل، لتنتهي عادة مع مجموعة من أكثر المقربين من الأسير نفسه.

على كل حال فإن  تنظيم مثل هذه الفعاليات وغيرها كان ضرورياً بالنسبة للأسرى، وخاصة في معتقل مثل انصار (3) الواقع في صحراء النقب، حيث علاقات الأسرى مع العالم الخارجي تكاد تكون معدومة، وتقتصر على زيارات نادرة جداً يقوم بها المحامون المتابعون لقضايا الأسرى، لا زيارات للأهالي، الصحف تصل عادة بعد أسبوع من صدورها، ومحطة الإذاعة الوحيدة التي يسمح للأسرى بسماعها عبر مكبرات صوت مرفوعة على أعمدة تحيط بالقسم هي الإذاعة الإسرائيلية ولثلاث فترات الصباحية، وعند الظهيرة، والمسائية، كل فترة منها تقارب الساعتين، وتتضمن فقرات أغاني واخبار وبرامج إخبارية يختارها ويتحكم بها أجهزة إدارة السجن. ولكل ذلك كانت حفلات الوداع للأسرى المقرر الافراج عنهم هي محاولات لكسر روتين الحياة الصعب داخل هذا المعتقل.

رغم كل هذا فان احداث اليوم التي سبقت الافراج عني قد مرت ثقيلة مع تسرب الأخبار حول المجزرة التي ارتكبت بحق العمال الفلسطينيين وذهب ضحيتها سبعة شهداء في منطقة “عيون قارة”. ما لبث الأسرى في معتقل أنصار (3) ان أعلنوا حالة الحداد وتنظيم اضراب احتجاجي عن الطعام، وتعليق كل الفعاليات لمدة ثلاثة أيام داخل المعتقل. وهكذا مر اليوم السابق للإفراج ثقيلاً علي وعلي الأسرى المقرر الافراج عنهم، وكل الاسرى داخل المعتقل. فقط المظهر الوحيد الذي سمحت به حالة الحداد هو وقوف كل الاسرى صبيحة الافراج على شكل دائرة داخل القسم للسلام على الاسرى المفرج عنهم ووداعهم.

انطلق بنا الباص المخصص لنقل الاسرى من منطقة المعتقل في صحراء النقب جنوب فلسطين متجها شمالاً باتجاه حدود الضفة الغربية من ناحية الجنوب، وهي منطقة بلدة الظاهرية، حيث يتم عادة إنزال كل الاسرى المفرج عنهم من سجن أنصار (3). ومن هناك تكون عائلاتهم في استقبالهم، او في الحد الأدنى يستقل كل منهم سيارة تنقله الى مكان إقامته. كنا ما يقارب (15) أسيراً معظمهم من منطقة نابلس. وكنا نعرف مسبقا أنه لن يكون أي أحد من عائلاتنا باستقبالنا، لان هناك حظر للتجول فرضه الاحتلال على كل انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، لامتصاص وقمع أي ردة فعل احتجاجية على مجزرة “عيون قارة”. لكنا لم نكن نتوقع ان يكون الوضع أسوأ من ذلك بكثير، خاصة ان معظمنا قضى فترة اعتقاله دون ان تتاح له اية فرصة لزيارة ذويه له.

ما ان وصلنا الى منطقة الظاهرية حتى كان بانتظارنا أولى المفاجئات، لم يكن هناك حتى اية سيارة يمكن لنا استئجارها لنقلنا الى مناطق اقامتنا، بل كانت حواجز جنود الاحتلال بانتظارنا، لم نكن نحمل بطاقتنا الشخصية، حيث لم تكن تسلم لنا عند مغادرة المعتقل، بل كان على كل منا ان يذهب بعد عدة أيام الى مقر الإدارة العسكرية في منطقته لاستلامها من هناك، طبعا بعد مقابلة ضابط المخابرات. كنا فقط نحمل أوراق من إدارة السجن تفيد انه تم الافراج عنا ذلك اليوم من السجن. انتظرنا على الحاجز الأول، وفقط بعد عناء طويل سمح الجنود لسيارات الهلال الأحمر بنقلنا من منطقة الظاهرية الى مقر الهلال الأحمر في مدينة الخليل. وهناك أعلمونا ان قوات الاحتلال لن تسمح حتى لسيارات الإسعاف بنقلنا الى أي مكان آخر، حيث حظر التجول لا يزال قائماً. وعلى كل حال تغلبنا على شوقنا لرؤية عائلاتنا، وسلمنا بالأمر الواقع وقبلنا ضيافة الهلال الأحمر والمبيت في مقرهم تلك الليلة.

في صبيحة اليوم التالي، تمكنت طواقم الهلال من الحصول على تصريح لنقلنا من مدينة الخليل الى حيث حاجز قلنديا شمال القدس. وفعلا تم ذلك ووصلنا الى الحاجز المقام هناك، وبعد ان فتشنا الجنود ودققوا في اوراقنا ووجهتنا، سمحوا لنا بالسير شمالا باتجاه مدينة رام الله مشياً على الاقدام، حيث لا وجود للسيارات أيضا بسبب حظر التجول. وعلى بعد أقل من كليو متر واحد من الحاجز، وعلى مدخل مخيم قلنديا أوقفنا حاجز آخر لجنود الاحتلال، وما ان رأى الجنود المنتشرين هناك مجموعتنا تسير حيث اخذوا بالصراخ والتجمهر حولنا والصراخ في وجهنا مكررين عبارة “ممنوع التجول”، وبعضهم أشهر السلاح في وجوهنا. اخذوا اوراقنا وامرونا بالوقوف ووجوهنا الى الحائط وايادينا مرفوعة للأعلى وهم يقفون على بعد عدة أمتار منا واسلحتهم مصوبة نحونا. بدأوا بمناداتنا واحداً واحداً. وحين جاء دوري ناداني الجنود ووقف مجموعة منهم حولي، وكلهم يسألوني في نفس الوقت (اسمك، عمرك، مكان سكن، لماذا تسير في ظل منع تجول.. والكثير من الأسئلة الأخرى التي كانت تلخصها الورقة التي استلمتها من إدارة سجن النقب عند مغادرتي له. وعلى كل حال لم أتمكن من الإجابة على معظم الأسئلة، فقد كانت ايدي الجنود وارجلهم واعقاب بنادقهم أسرع في الضرب والركل في كل انحاء الجسد، وقعت على الأرض، واعتقد ان الدماء سالت من فمي، وجدت نفسي أسرع الخطى باتجاه أقرب منزل وجدت باب ساحته مفتوحاً امامي، دخلت الى هناك، وكان بقية الاسرى سبقوني اليه. كنا جميعا مضروبين ومنتفخي الوجوه ومنكوشي الشعر، والملابس متسخة والدماء تسيل من أماكن مختلفة من أجساد معظمنا.

بمساعدة سكان المنزل استطعنا الاتصال مع الهلال الأحمر الفلسطيني الذي تمكن من الوصول الينا بسيارات الإسعاف، ومن هناك نقلونا الى مقرهم في مدينة البيرة، حيث اضطررنا أيضا للمبيت ليلة أخرى، بسبب عدم وجود سيارات وعدم قدرة الهلال الأحمر على نقلنا الى أي منطقة اخرى. لكن في اليوم التالي صباحاً، وبعد الحاح شديد من قبلنا واصرارنا على المغادرة الى مدينة نابلس ولو مشيا على الاقدام، حصلوا على اذن لنقلنا الى الحدود الشمالية لمدينتي رام الله والبيرة حيث الطريق الى نابلس. ومن هناك استغرقنا الامر حتى نهاية اليوم للوصول الى مدينة نابلس، وعبر التنقل من سيارة الى أخرى، عبر الطرق الجبلية بين قرية وأخرى. كانت كل سيارة تنقلنا لمسافة محددة، حتى حدود القرية الأخرى، ثم نسير مشياً على الاقدام، وبين الجبال محاولين تخطى الحواجز المنتشرة على الطرقات والمفترقات الرئيسية. وصلنا في ساعات مساء ذلك اليوم. أنهينا رحلة الاعتقال، ورحلة الوصول الى البيت بعد يومين من الافراج عنا من المعتقل. كانت الأجواء لا تزال مشحونة، والغضب يعم كل فلسطين بسبب تلك المجزرة. وربما كل تلك الأجواء هي التي عظمت شعورنا بالارتياح بوصولنا الى بيوتنا. أدركت في تلك اللحظات ان كل لحظة في حياة الفلسطيني هي لحظة فاصلة بين الحياة والموت.

 

نبيل دويكات

رام الله 21 أيار 2016

 

[i]– الاعتقال الإداري، هو سياسة يتبعها الاحتلال الإسرائيلي استنادا الى قانون الطوارئ منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين. حيث يقوم الاحتلال باعتقال أي فلسطيني ويصدر قرار اعتقال اداري بحقه لمدة تتراوح من (3-6) شهور وتكون بالعادة مفتوحة للتمديد بعد انتهائها، ودون تقديم اية معلومات او ادلة او حتى اجراء أي نوع من التحقيق مع الأسير، وفقط يتم الاستناد في امر الاعتقال الى “ملفات سرية” من أجهزة امن الاحتلال.

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *