ركنت سيارتي في المكان المخصص ودفعت أجرة الموقف من خلال آلة الدفع المسبق المخصصة لذلك، وذهبت مع عائلتي لشراء بعض الحاجيات في السوق القريب. حين عدت وجدت سيارة أخرى مركونة بصورة مخالفة خلف سيارتي مباشرة، وقاطعة عليّ إمكانية تحريك سيارتي والمغادرة. بحثت عن صاحب السيارة دون جدوى، واضطررت للانتظار لمدة تزيد عن ثلاثين دقيقة الى حين حضوره، مختصر الحديث معه أنه فعل ذلك لأنه كان في عجلة من أمره، ولم يجد مكاناً متاحاً وقريباً يركن فيه سيارته. تذكرت أنه خلال الأشهر الأخيرة حصلت معي عدة أحداث مشابهة. في إحدى المرات برر صاحب السيارة فعلته بأنه كان يريد شراء الدواء من صيدلية قريبة، وفي مرة أخرى كان التبرير أن صاحب السيارة ذهب لأداء العبادة، وفي مرة رابعة ذهب لدقائق فقط وفي مرة خامسة وسادسة.. الخ، وهي تفاصيل يعيشها كل منا يومياً.

جوهر الفكرة لا ينحصر في موضوع رَكن السيارات، بل الموضوع يرتبط بسلسلة لا تنتهي من السلوكيات، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المؤسسة والهيئة أو حتى على مستوى النظام السياسي والاجتماعي عموماً. أساس هذه السلوكيات يقوم على فكرة المعرفة المسبقة لمن يقوم بها أنه مخالف للنظام والقانون، وربما مخالف للتقاليد والقيم متبوعاً بكلمة “لكن”. وهي كلمة تكاد تكون المفتاح السحري الذي يمتلكه كل منا ويستخدمه في اللحظة المناسبة للإجابة على السؤال الذي يواجهه عند القيام بأي سلوك أو تصرف مخالف للنظام والقانون.

بشكل عام فإن عملية بناء المؤسسات، سواء العامة منها أو الخاصة، تسير على قدم وساق، وننفق الكثير من مواردنا وينخرط كل مجتمعنا بصورة يومية، وفي كل مجالات الحياة في عملية بناء القوانين والأنظمة والإجراءات التي تضمن من ناحية توفير الأسس التي تنظم علاقات الأفراد والجماعات والمؤسسات المختلفة بعضهم ببعض. ومن ناحية ثانية توفير الآليات التي تكفل حقوق المواطنين كافة، ومن بينها حقهم في المساواة وتكافؤ الفرص في الوصول أو الحصول على الخدمات في مختلف المجالات. وليس من المبالغة القول إنه عند المراجعة النظرية للقوانين والأنظمة في أي مجال كان، وفي معظم مؤسسات مجتمعنا نجد توفرها بشكل واضح وعلني ومتاح أمام الجميع. وحتى تلك المؤسسات التي توفر خدمات مختلفة للمواطنين نجد أن هناك أسس ومعايير وأنظمة واضحة ودقيقة للظروف والشروط اللازمة للحصول على الخدمات، بل وترتيب المتقدمين للحصول عليها وفق أولويات تستند الى تلك الأسس والمعايير.

لكن السؤال الرئيسي الذي يبرز في الواقع العملي والحياتي هو لماذا لا تسير الأمور وفق ما “تشتهيه” الأنظمة والمعايير؟! لماذا يبحث معظمنا دائماً عن “الواسطة”، وأحيانا حتى قبل مراجعة أو تقديم طلب الحصول على خدمة معينة؟ إذا أراد أحدنا التقدم للحصول على وظيفة مثلاً فإنه يركز جهده الأكبر في البحث والتنقيب عن الشخص أو الجهة المسئولة عن الوظيفة أكثر من التركيز على متطلبات وشروط الوظيفة. وإذا أراد الحصول على خدمة تعليمية أو صحية أو أية خدمة حياتية أخرى فإنه يركز البحث أولاً عن الأفراد المسئولين ومعارفهم وعلاقاتهم وكيفية الوصول والتواصل معهم.

في اعتقادي أن “الاستثناءات” هي السبب الأهم في هذا الأمر. وهي باختصار تلك العملية التي يجري بموجبها منح الأفضلية والأولوية لشخص أو لمجموعة أشخاص في الحصول على خدمة معينة خلافاً للأنظمة والمعايير المعلنة والمتبعة في المؤسسة التي تقدم تلك الخدمة، وأحياناً بغض النظر عن انطباق تلك الأنظمة والمعايير عليهم من حيث الأساس والمبدأ. في هذه الحالة فإن فرد و/أو هيئة معينة وضع نفسه في موضع تقديم “فتوى” تتيح له أو لفرد آخر القيام بسلوك ما مخالف للقانون والنظام والمعايير.

هكذا تسير الأمور في كثير من الأحيان. يحصل فرد محدد على وظيفة معينة، حتى دون تنافس، رغم أن عشرات آخرين غيره يتنافسون للحصول عليها. يحصل أحدهم على فرصة للعلاج رغم أن عشرات أو مئات غيره ينتظرون، يحصل فرد على خدمة خلال دقائق من حضوره رغم أن مئات آخرين ينتظرون في طابور طويل منذ ساعات. ورغم أن القانون يمنع ذلك إلا أنه لا يندر أن نجد أحدهم يغلق شارعاً عاماً لأنه يحتفل بنجاحه أو بمناسبة خطوبة أو زواج. ممنوع استخدام المفرقعات النارية لكن هناك من يستخدمها للترحيب وتحية قائد أو للتعبير عن التهنئة لأسير بمناسبة تحرره من الاعتقال. ممنوع قانوناً وشرعاً التسبب بالأذى للآخرين لكن هناك من يغلق الشارع أمام المارة لأنه ذاهب للتعبد. يحصل أحدهم على منحة قبل غيره، يسافر آخر أكثر من غيره، يرتقي آخر في وظيفته قبل كل الآخرين. ويطالب أحدهم ليل نهار بالديمقراطية والانتخابات والتجديد لكل الهيئات والمؤسسات في حين يتربع هو في موقعه منذ عشرات السنين. وهكذا نجد في كل مكان وكل يوم الكثير من مثل هذه السلوكيات والممارسات، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الهيئات والمؤسسات.

في اعتقادي أنه لا يجوز تجزئة القانون والنظام ولا المعايير والأسس تحت أي مبرر وظرف، كما أنه لا يجوز أيضاً التعامل معها بانتقائية مهما كانت الأسباب والمبررات. وكذلك الحال بالنسبة للأخلاق والقيم. ومجرد السماح بوجود “استثناءات” معينة فإن هذا الأمر يفتح الباب واسعاً أمام الجميع للبحث عن “استثناء” خاص بهم، ويتناسب مع رغباتهم ومصالحهم، وحينها سوف نجد ان النظام والقانون السائد هو نظام الاستثناءات ليس إلا، في حين تمتلئ خزائن ورفوف مكتباتنا، وربما نحفظ عن ظهر قلب مجلدات القوانين والأنظمة. حينها سوف نجد أنفسنا ومصير كل جهودنا في بناء الأنظمة والقوانين في وضع ينطبق عليه المثل الشعبي القائل” مثل حراث الجمال”.

نبيل دويكات

رام الله-1 حزيران 2016

روابط النشر:

 

http://www.asdaapress.com/?newsID=18006

http://www.wattan.tv/news/175531.html

http://www.amin.org/articles.php?t=opinion&id=29145

http://www.karamapress.com/arabic/?Action=ShowNews&ID=187261

http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2016/06/01/405584.html

http://www.tmfm.net/article/35043

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *