لم اكن في نهاية سبعينات القرن الماضي اعلم أي شيء بعد عن مجلس الامن الدولي، ولم اكن اعلم انني سأكون شاهداً على حدث تاريخي عندما رأيت بأم عيني الطائرات العامودية تطير في سماء قريتي روجيب القريبة من مدينة نابلس حاملة معها بيوت المستوطنة التي أقيمت قبل اشهر قليلة على اراضي القرية في طرفها الجنوبي الشرقي. كنت لا ازال في مرحلة الدراسة الاعدادية حين جاء مجموعة من المستوطنين واقاموا المستوطنة.

كان هذا الحدث بالنسبة لي احد اهم نقاط البداية لفهم معنى  الاحتلال. اكثر ما كان يستفز جيلنا كأطفال في تلك المرحلة هو التسلل بين الصخور والاشجار الى اقرب نقطة نستطيع الوصول اليها في محيط المستوطنة، نتفحص اشكال المستوطنين ولباسهم وحركاتهم وبيوتهم الجاهزة التي اقاموها هناك بينما نكون على استعداد تام للهرب في حال اكتشافهم لوجودنا. كانت الاسئلة تزيد كل يوم: ما هي المستوطنة؟ لماذا اقاموها؟ لماذا على ارضنا؟ من هم المستوطنون؟ من اين جاؤوا؟ ما هو شكلهم ولباسهم ولغتهم؟ وهل هناك اخطار تهددنا بسببها؟ وكيف؟ وماذا سيفعل اهالي القرية؟ وغيرها من الاسئلة التي تستنفذ كل طاقاتنا في البحث عن اجابات لها.

واتذكر ايضا في ذلك العام 1979 المظاهرة الضخمة ضد المستوطنة. جاء آلاف المتظاهرون من كل المناطق  منطلقين من وسط مدينة نابلس وكان بسام الشكعة رئيس بلديتها في ذلك الحين على رأسهم، وتوجهت الى مكان قريب من المستوطنة، وصلت في نفس الوقت مظاهرة مماثلة من احزاب وحركات عربية واسرائيلية واعضاء كنيست عرب ويهود. كان تجمعاً كبيراً في ذلك الحين، عنوانه الاصرار على التصدي للمستوطنة.

لاحقاً تمكن اصحاب الاراضي من انتزاع قرار من المحكمة العليا بإزالة المستوطنة التي اقيمت على اراضي مملوكة من قبلهم، تبعها عملية تفكيك المستوطنة. ولم تمض فترة طويلة حتى اندفع كل اهالي القرية والمناطق المجاورة الى مكان اقامة مستوطنة “الون موريه”  بعد انتهاء عملية تفكيكها ونقل بيوتها الجاهزة. وكانت اجواء الفرح تعم كل مكان. كان حدثا بسيطاً لكنه يحمل في طياته كل معاني الرمزية بالنسبة للصراع مع الاستيطان، ولم يسبق له مثيل.

اما التطورات اللاحقة فقد تمثلت في اقامة مستوطنة اخرى تحمل نفس في مكان آخر مقابل للبلدة ويبعد عدة كيلو مترات عنها، على قمة جبل “الشيخ بلان” الذي يطل من ناحيته الشرقية والشمالية على منطقة الاغوار. وبعد عدة اعوام اقيمت في مكان قريب من مكان اقامة المستوطنة نفسها مستوطنة اخرى باسم آخر. وهكذا بعدة عدة سنوات كانت عجلة الاستيطان لا تزال تدور، وتلتهم الارض وقمم الجبال والاراضي الزراعية والحرجية المحيطة بالمنطقة والتي تطل من الجهة الشرقية لمحافظة نابلس على منطقة الاغوار عموماً.

الآن وبعد ما يقارب الاربعة عقود على ذلك الحدث التهمت هذه المستوطنات عشرات آلاف الدونمات، واصبحت مساحة الاراضي التي تسيطر عليها تبلغ اضعاف مساحة الاراضي لكل القرى المحيطة مجتمعة، هذا ان لم نقل اراضي محافظة نابلس  اجمالا. ويستطيع كل من يرغب ان يرى حتى بالعين المجردة كيف تم ترتيب وتنظيم البناء في تلك المستوطنات، البيوت والشوارع وكل ما يلزم من البنى التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي وغيرها من المستلزمات الجاذبة للسكن والعيش فيها. كما يمكن ايضا ملاحظة البنى الزراعية والصناعية التي تم استحداثها هناك، كمزارع الدواجن والمواشي الضخمة، والدفيئات الزراعية وغيرها من المنشآت.

على الجهة المقابلة، لا نزال نحن ندور في نفس الحلقة، معظم القرى والتجمعات السكانية المحيطة لا تزال على حالها تقريباً، وامتدادها العمراني اتسع بنسبة لا تكاد تذكر، وبقي محصوراً على الدوائر الضيقة القريبة من مراكز القرى والتجمعات السكانية. وفي نفس الوقت جرى اهمال الزراعة والاراضي الزراعية بصورة شبة كليه. ورغم تضاعف عدد السكان عدة مرات فان حال البنى التحتية لم يتطور الا بالحد الادنى، وبعضها لم يتطور اصلاً.

بدلاً من التوسع الى قمم الجبال المحيطة بقينا ندور على نفس المساحة، ونشغل انفسنا بخطط لا جدوى منها في الغالب، حتى لاستيعاب التطورات السكانية. نعمل ونخطط في نفس الشارع، احياناً نقسمه الى اتجاهين، ثم نعود لتغييره الى اتجاه واحد، احياناً نقوم بتوسيع الجزيرة وسطه، ثم نقوم بإلغائها وتوسعة رصيفه، ثم نصمم دواراً في نهايته، ويبقى هو نفسه بالحفر والمطبات والحفريات، واعمال البناء والتعمير فيه تظل قائمة طوال العام. ونعيد تغيير خطوط المياه والكهرباء كلما حصلنا على تمويل لذلك.

خلاصة القول انه في هذه الايام ونحن نعيش نشوة الانتصار بقرار مجلس الامن الدولي رقم (2334) ضد الاستيطان والمستوطنات فإننا بحاجة الى قراءة شاملة في التاريخ القريب نسبياً. قراءة فاحصة وناقدة، بهدف استخلاص الدروس والعبر. فاذا كنا ومن خلال قرار مجلس الامن الدولي الاخير قد كسبنا نصراً معنويا هاماً، فان العبرة في كيفية العمل على الارض من اجل تعزيز هذا النصر. ومن غير المنطقي ان ينشغل كل الشعب ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية في تحليل القرار ايجاباً او سلباً، وكلام نظري “لا يغني ولا يعزز صمود”. اما تحويل القرار الى محطة اخرى لصالحنا فانه لن يتم الا اذا انخرطنا في عمل حقيقي على الارض، واعادة النظر في كل ما اتبعناه حتى الآن جملة وتفصيلاً. والا فان القرار لن يكون مصيره افضل من سابقاته من القرارات الاممية. ولنا في التاريخ عبرة.

نبيل دويكات

رام الله-2 كانون ثاني 2017

روابط النشر:

http://www.wattan.tv/news/194779.html

http://tmfm.net/article/40394

https://www.amad.ps/ar/?Action=Details&ID=153119

http://www.amin.org/articles.php?t=opinion&id=30354

http://www.alhourriah.ps/ar/?page=det&id=41741

http://www.ppp.ps/ar_page.php?id=1407e0ay21003786Y1407e0a

https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2017/01/03/425458.html

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *