قد تبدو عبارة (النقد الذاتي والنقد) غريبة الى حد ما في أيامنا هذه، لكنها كانت واحدة من اهم أبجديات العمل النضالي الثوري في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. حين عرفت العبارة لأول مرة خلال فترة اعتقالي منتصف ثمانينات القرن الماضي كثيراً ما كنت اقرأها وأَنطقها بصورة مقلوبة  (النقد والنقد الذاتي) خلال الحلقات التوعية والتثقيف الوطنية والحزبية التي كان قدامى المعتقلين وقيادات العمل الوطني من مختلف الحركات والاحزاب داخل المعتقلات يحرصون على انتظام عقدها، خاصة بالنسبة للمعتقلين الجدد وصغار السن.  وكانوا يهتمون بأدق التفاصيل لبناء  وعي الشباب وعلى أسس متينة، وحتى في كيفية استخدام العبارات، وشرح معانيها وأهميتها في السياق التنظيمي الداخلي والوطني، ونهج العمل الذي يجري السير عليه والتقيد به بصورة حازمة وصارمة.

كان قائد الجلسة سرعان ما يتدخل للتصحيح في كل مرة أَنطق العبارة بصورتها  الأكثر سلاسة بالنسبة للنطق (النقد والنقد الذاتي) ويطلب مني بإصرار قراءتها (النقد الذاتي والنقد)، ويمعن في شرح أهمية قيام الحزب الثوري بممارسة اسلوب النقد الداخلي، والمراجعة المستمرة لخططه وإنجازاته وطريقة أدائه وعلاقاته الداخلية ومع جماهير الشعب. وكان يصر على هذا الترتيب للعبارة من الناحية النظرية. اما عملياً فكان يحرص دائماً عند وصولنا هذا البند من جدول اعمال حلقة النقاش الاسبوعية للأوضاع التنظيمية الداخلية على أن يتناول كل منا النقد بدءاً من نفسه أولاً وأمام الآخرين، وبعد الانتهاء من ذلك ندور في دوره أخرى لتوجيه النقد للآخرين بصورة مباشرة وصريحة. وكان يسهب في شرح المعنى والأهمية التي يكتسبها موضوع قيام الانسان نفسه بمراجعة سلوكه وعمله اولاً وقبل أن يراجعه وينتقده الآخرين، وكذلك الحال بالنسبة للحزب قبل ان تنتقده الجماهير. كان دائما يكرر ان هذا هو أحد أهم مفاتيح بناء وتطور شخصية الانسان الفرد، وبناء الاحزاب والحركات الثورية وقدرتها على التعبير عن جماهيرها وقيادتها نحو التغيير.

بدون الغوص أكثر في المعنى والتفاصيل فإن القارئ والمدقق في التاريخ البشري يكتشف أن لهذه العبارة ومضامينها مفعول “السحر” في المحطات المفصلية في تاريخ الشعوب والحركات والقوى التي تركت بصمات واضحة في هذا التاريخ. صحيح أن استخدام المفهوم والمعنى شاع على يد الأحزاب اليسارية، خاصة بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917، إلا أننا قد نجد معنى ومضمون مشابه لها في تاريخ حركات وأحزاب وقوى كثيرة على مدار التاريخ، تحضرني الآن على سبيل المثال لا الحصر العبارة الشهيرة التي قالها عمر بن الخطاب “لو عثرت دابة في العراق، لخفت أن يسألني الله عنها”.

ممارسة النقد الذاتي على أرض الواقع، أسهم دوماً في زيادة شعبية القادة وحركاتهم واحزابهم  وزيادة الدعم والالتفاف الجماهيري حولها، وهو ما مكنها من لعب دور ملموس  في سياق تطور مجتمعاتها. وبالنسبة للأحزاب والقوى في مجتمعنا فان فترة نهوضها وزيادة قوتها ونفوذها في اوساط المجتمع منذ منتصف السبعينات هو الذي مكنها مثلاً من الفوز  في انتخابات المجالس البلدية عام 1976 رغم أنف الاحتلال، ولاحقاً فوزها في انتخابات المؤسسات والنقابات والنوادي ومجالس الطلبة في كل انحاء الوطن.

دارت هذه الأفكار والذكريات في رأسي وأنا أتابع سلسلة نتائج الانتخابات خلال الأسابيع الأخيرة، سواء انتخابات مجالس طلبة الجامعات والمعاهد التعليمية، أو انتخابات مجالس الهيئات المحلية في الضفة الغربية وردود الفعل المختلفة، وخاصة في أوساط القوى والأحزاب السياسية المختلفة المتنافسة. حيث كانت السمة الأبرز لدى معظم القوى والأحزاب هي التراجع في النتائج التي تحرزها، مقارنة بسنوات أو دورات انتخابية سابقة، بل ان بعض الأحزاب والقوى لم تتمكن في بعض الأحيان من اجتياز “نسبة الحسم” للحصول على تمثيل في الهيئة المنتخبة. أما العنوان الأشمل والأوسع فهو التراجع على المستوى العام في نسب المشاركة في الانتخابات من قبل الفئات والشرائح المعنية.

استمرار مسلسل التراجعات يعني في مجمل ومضمون ما يعنيه بالنسبة للمواطنين عموماً بشرائحهم المختلفة هو تراجع الثقة بالأفكار والأدوات والأساليب للقوى والأحزاب المختلفة وقدرتها على التعبير والتمثيل الحقيقي لمصالح هذه الفئات والشرائح. أما الأمر الأكثر أهمية وخطورة في كل ذلك، فهو استمرار القوى والأحزاب منفردة ومجتمعة في التعامل مع هذه الحقائق كما هي. ودون ان تشكل بالنسبة لها محطة لنقد نفسها ومراجعة المناهج والأساليب وأدوات العمل. وهذا يعني انها في كل مرة تبحث عن اسباب الفشل في الآخرين، دون الذات.

لا أحد يتوقف مرة واحدة لممارسة (النقد الذاتي) سواء الفرد الواحد او داخل الحزب الواحد أو بين الأحزاب عموماً. وتستمر القيادات نفسها، وكذلك الحال بالنسبة للخطط والمناهج وأدوات العمل التي تكرر وتنسخ نفسها عام بعد الآخر، ويتراجع بريقها مع مرور الزمن والايام، حتى بالنسبة لأصحابها. وهكذا تتزايد الهوة مع الزمن.  أما النقد الوحيد الذي نتقن ممارسته فهو نقد الآخرين، وتتحول الظروف، الواقع، الحلفاء، المنافسين، الجماهير… وغيرها من العوامل الخارجية هي الملوم والسبب الأساسي لكل فشل وتراجع. وتتحول ذات الحزب و/او القائد الى ذات مترفعة وأكبر من النقد الذاتي، بل يصبح نقدها من الآخرين بمثابة تعدي واعتداء على “قدسيتها”.

ونحن نعيش في عالم صغير ونرى الواقع من حولنا، في المجتمعات الأخرى حيث يمكن أن يستقيل أحد الوزراء من منصبه بسبب خطأ ما يحمّل نفسه المسئولية الأولى عنه، ويعتذر مسئول آخر للشعب عن هفوة ارتكبها خلال عمله، ويسلم زعيم حزب مقاليد زعامة حزبه للآخرين عند فشل الحزب في تحقيق نتيجة مرضية… وغيرها أمثلة كثيرة. أما في مجتمعنا، وبدون الانتقاص من مكانة أو قيمة أو وتاريخ ودور أي قائد او حزب، فإن اهمال المراجعة الذاتية، فردياً وجماعياً، يفكك علاقة الثقة بين الحزب والمواطنين، وتتوالى حلقات مسلسل التراجع بصورة تشبه حبات المسبحة حين ينفرط عقدها.

خلاصة القول ان المراجعة الذاتية والنقد الذاتي، فردياً وجماعياً، بات ضرورة ملحة لكل القوى والأحزاب والهيئات والمؤسسات المجتمعية عموما اذا أرادت ان تعيد بناء الثقة الآخذة في الانهيار بينها وبين المواطنين عموماً. وبدون ذلك فإنها سوف تتحول الى عبئ على نفسها وعلى الوطن والمواطنين، وهو ما يضعها على مسار الاندثار والتلاشي.

 

نبيل دويكات

رام الله-15 أيار 2017

روابط النشر:

http://www.wattan.tv/news/204805.html

https://www.amad.ps/ar/?Action=Details&ID=173658

http://www.amin.org/articles.php?t=opinion&id=31196

https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2017/05/16/436652.html

 

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *