ما إن يدق جرس المدرسة معلناً بداية اليوم الدراسي قبل الثامنة صباحاً بقليل، حتى تكون اشارة البدء، وكأن الجرس هو كلمة السر لانطلاق التظاهرة، ينضم معظم الطلبة الى حلقة تتجمع في ملعب كرة السلة التابع للمدرسة والذي لا يفصله عن مدخل المقام سوى سور المدرسة من الناحية الجنوبية الغربية. يهتف الجميع بالأناشيد والشعارات الوطنية وهم يرفعون علم فلسطين، وتُلقى احياناً بعض الكلمات والبيانات التي تتحدث عن المناسبة كيوم الارض او أي مناسبة وطنية اخرى، وما هي الا دقائق قليلة حتى يبدأ العشرات من الطلبة برشق الحجارة عالياً فوق سور المدرسة والسياج المحيط بالمقام باتجاه الجنود والمستوطنين، فيما تنطلق مجموعات اخرى خارج اسوار المدرسة لإغلاق الشوارع المحيطة بالحجارة والاطارات لإعاقة تقدم دوريات الجنود وسيارات المستوطنين.

سرعان ما تتوسع المواجهات بين الطلبة والجنود، وتصل تعزيزات أخرى من الجنود الذين يبدؤون بمحاصرة المدرسة من جميع الجهات، ويبدؤون بإطلاق قنابل الغاز باتجاه الطلبة في الساحات وحتى في ممرات بناية المدرسة وطوابقها الثلاثة، واحياناً الرصاص. وينقسم الطلبة ويوزعون انفسهم الى مجموعات ترابط على الجهات المختلفة لمواجهة محاولات الجنود اقتحام حرم المدرسة.  وسرعان ما تأتي تعزيزات للطلبة ايضا من الاهالي وشبان المناطق المجاورة، الذين ينطلقون بدورهم في ضرب الحجارة واحراق الإطارات المطاطية واقامة المتاريس والاشتباك مع الجنود المنتشرين حول المدرسة في محاولة لإشغالهم وتشتيت ضغطهم على طلبة المدرسة. مع تقدم الوقت خلال النهار تأخذ التعزيزات شكل امدادات من الطعام والشراب واكياس البصل التي يستخدمها المتظاهرون للتغلب على الغاز المسيل للدموع.. وغالبا ما كان تستمر المواجهات بهذه الصورة حتى ساعات المساء.

لم تكن مدرسة قدري طوقان كأي مدرسة أخرى في محافظة نابلس، بل ربما في كل فلسطين. كانت من أكبر المدارس الثانوية في فلسطين سواء من ناحية عدد طلبتها الذي يقارب ألف طالب، أو من ناحية حجم بنائها الحديث ومرافقها الكبيرة والحديثة نسبياً في ذلك الوقت قياساً بالمدارس الثانوية الأخرى، حيث أراد لها المتبرعون والقائمون على بنائها أن تكون نموذجاً متقدماً في التعليم، وحتى في تسميتها على اسم أحد شخصيات مدينة نابلس. ولم تكن هذه الميزة الوحيدة التي تُميز المدرسة. شاءت الأقدار أن يكون بنائها في مطلع ثمانينات القرن الماضي على مقربة من أحد الأماكن الذي أصبح مشهوراً باسم “مقام سيدنا يوسف”، واشتهرت منذ ذلك الحين كأحد أهم مناطق الاحتكاك، بل الصدام اليومي بين الفلسطينيين والمستوطنين وجيش الاحتلال. جاء موقع المدرسة في الشارع المعروف باسم “شارع عمان” الذي يصل وسط المدينة بالأحياء والقرى  والمخيمات في الجهة الشرقية من المدينة مثل حي الضاحية وعسكر وبلاطة وعراق التايه ومخيمات عسكر الجديد والقديم وبلاطة.

للخارج من المدينة عبر شارع عمان يتفرع يميناً شارع اخر باتجاه حي بلاطة البلد، ماراً من امام مدخل المدرسة على الجهة اليسرى ثم البوابة الرئيسية ل”مقام سيدنا يوسف”  الذي يبعد عدة امتار فقط عن السور المحيط بالمدرسة من الجهة الجنوبية، وما بين مدخل المدرسة والمقام هناك ايضاً مدخل مدرسة ثانوية اخرى بنيت لاحقاً بموازاة مدرسة قدري طوقان، وسميت هي الاخرى على اسم احد شخصيات مدينة نابلس الاقتصادية الذي تبرع ببنائها على نفقته.

بالنسبة لي فقد عرفت “مقام سيدنا يوسف” منذ عدة سنوات، وهو بناية قديمة على شكل غرفة واسعة بجانبها عدة غرف صغير لا اذكر عددها، وامامها ساحة واسعة ايضا وعلى احد اطرافها بجانب الباب شجرة توت ضخمة، ومحاط بسور من الجهات الاربعة، وتعود على الاغلب للعهد العثماني. كنا كأطفال في المدرسة الابتدائية في تلك البلدة نذهب برفقة احد زملاء صفنا  لزيارة جده الذي ورث حراسة المقام منذ العهد العثماني. ولم نكن نعلم شيئاً عن المكان سوى انه “مقام” لأحد الاولياء باسم “يوسف”. كنا نسمع الشبان الاكبر سناً منا يتحدثون احياناً عن قدوم بعض الغرباء “اليهود” يأتون لزيارة المكان، على شكل افراد او مجموعات صغيرة وبعضهم كان يضع قبعة صغيرة على رأسه.

عندما انهيت الدراسة الاعدادية وانتقلت الى المرحلة الثانوية في مدرسة قدري طوقان كان “مقام يوسف” اكثر تحصيناً، ونُصب سياج من الشبك فوق السور المحيط به. ووضعت عدة كشافات انارة ليلية قوية الإضاءة فوق اعمدة خشبية نُصِبت في انحاء مختلفة حول المقام وفوق السور والسياج المحيط به. كانت زيارات المستوطنين قد اصبحت اكثر كثافة وانتظاماً، ولاحقاً طرد جيش الاحتلال حارس المكان، واقام نقطة مراقبة ثابتة من الجنود على مدخله، ومُنع العرب من دخوله. واقام المستوطنون طقوساً وأضاءوا الشموع داخله خلال زياراتهم. وتحول المكان في عيوننا الى رمز من رموز التغلغل الاستيطاني في قلب الوطن.

مطلع ثمانينات القرن الماضي شكلت المدرسة مركز حدث متقدم في المواجهات المتصاعدة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي. وشارك طلبة المدرسة بنشاط بارز في التحركات والمظاهرات الجماهيرية المتواصلة ضد الاحتلال وسياساته في مختلف المجالات.  وكانت تحركات وزيارات المستوطنين الى المقام إضافة الى وجود وتحركات جنود الحراسة للمكان أحد أكثر نقاط الاحتكاك والصدام بين طلبة المدرسة وسكان الأحياء المحيطة من ناحية وبين الجنود والمستوطنين من الجهة الأخرى. وهكذا مضت الأيام في المناسبات الوطنية الفلسطينية وفي أية تحركات مناهضة للاحتلال تكون مدرسة قدري طوقان في مقدمة الحدث والمواجهات مع الجنود والمستوطنين.

في ذلك اليوم مطلع آذار 1983 بدأت المظاهرة صباحاً بصورتها المعتادة ثم ما لبثت ان تطورت بصورة متصاعدة، وأصيب ثلاثة من طلبة المدرسة بالرصاص الحي، وهو ما اثار مزيد من الحماس للطلبة للمشارة في المواجهات مع الجنود. وبدأت أعداد أكبر من المعتاد من الجنود بمحاصرة المدرسة، ومحاولات تقدم مستمرة لاقتحامها، وإطلاق كثيف لقنابل الغاز والرصاص الحي. وبدا واضحاً إصرار الجنود على اقتحام المدرسة، واستمر ذلك حتى ساعات الليل حين أحكم الجنود حصار المدرسة، وأصروا على اعتقال من تبقى داخل أسوار المدرسة. وهكذا تم اقتياد كل الطلبة الموجودين في حافلات أقلتهم من المدرسة الى مقر الإدارة العسكرية لجيش الاحتلال في المدينة. وهناك جرى حجز ما يزيد عن ثلاثمائة طالب على الأرض في إحدى الساحات ويحيط بنا الجنود.

جاء أحد ضباط جيش الاحتلال مدعياً انه ضابط الإدارة العسكرية في المنطقة، وألقى خطبة تضمنت الكثير من عبارات التهديد والوعيد للمدرسة والطلبة، ثم قدمت مجموعة من الجنود ودخلوا للتجول بين الطلبة الجالسين على الأرض، يتفحصون الطلبة بنظرات تمتلئ بالحقد والكراهية. أشار كل جندي منهم الى خمسة من الطلبة طالباً منهم الوقوف واللحاق به. كنت انا من بين احدى هذه المجموعات.

كانت الساعة تقترب من ساعات الفجر وكنا ثلاثين طالباً، كل خمسة منا “حصة” أحد الجنود، اقتادونا الى جهة منفصلة عن الطلبة الآخرين حيث توجد خيمة منصوبة في أحد زوايا الساحة، وعلمنا انه تم الافراج عن بقية الطلبة. وفي ساعات الصباح الأولى بدأوا باقتيادنا مكبلين الى داخل المبنى، وحشرونا جميعا في زنزانتين متجاورتين ومقابلتين للقاعة المعروفة بقاعة المحكمة. ثم ما لبثوا ان بدأوا بمناداتنا كمجموعات، يأتي الجندي على مدخل الزنزانة وينادي الطلبة الخمسة الذين وقع اختياره عليهم، ويصحبهم الى داخل قاعة المحكمة. وحين عادت المجموعة الأولى الى الزنزانة بعد انتهاء جلسة المحكمة التي استغرقت ما يقارب النصف ساعة علمنا انه تم الحكم عليهم بالسجن الفعلي لمدة ثلاثة أشهر ودفع غرامة مالية بتهمة “الاخلال بالنظام وضرب الحجارة تجاه الجنود”. وهكذا استمر الحال طوال النهار حتى انتهاء موعد دوام المحكمة حيث قاموا بنقلنا جميعا الى معتقل “الفارعة”. كنت انا من بين مجموعتين لم تتم محاكمتهما. وفي اليوم التالي اعادونا من السجن الى المحكمة.

حين دخلنا الخمسة الى قاعة المحكمة طلبوا منا الوقوف ثم طلب القاضي سماع شهادة الجندي الذي عرّف عن نفسه كضابط لإحدى الدوريات التي تواجدت في محيط المدرسة يوم المظاهرة. وأقسم انه رآنا الخمسة نقف على سطح المدرسة ونحن نلقي الحجارة باتجاه سيارة الدورية وتسببنا في كسر زجاجها. ثم وقف جندي آخر عرف عن نفسه كممثل للنيابة وطلب من القاضي إيقاع عقوبة رادعة بحقنا. وما هي الا دقائق قليلة حتى نطق القاضي بالحكم علينا بالسجن لمدة ستة أشهر فعلية ودفع غرامة مالية باهظة. أما المدرسة فقد علمنا لاحقا أنه تم إغلاقها بقرار عسكري لمدة ثلاثة أشهر.

بالنسبة لنا الخمسة فقد كان ذلك هو اليوم الأخير في تلك المدرسة، حيث كنا جميعاً  في صف الدراسة الثانوية العامة وبقائنا ستة أشهر في الاعتقال يعني عدم تمكننا من التقدم لامتحان الدراسة الثانوية “التوجيهي” لذلك العام، وهذا يعني وفق انظمة وقوانين الاحتلال انه لن يتم السماح لنا بالعودة للدراسة في تلك المدرسة التي تتبع النظام المسمى “الحكومي” في العام القادم، وسيترتب علينا اكمال دراستنا في احدى المدارس الخاصة وعلى نفقتنا الخاصة بعد الافراج عنا من الأسر، وهو نوع من العقوبة المضاعفة بحق الطلبة الذين تجري محاكمتهم بسبب مشاركتهم في المظاهرات والنشاطات الوطنية

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *