منذ اعتقال جيش الاحتلال للطفلة الفلسطينية “عهد التميمي” من قرية النبي صالح شمال غرب رام الله في التاسع عشر من كانون اول من العام 2017 وحتى الآن تواصلت ردود الفعل على مستويات لم تقتصر على المستوى الفلسطيني، بل شملت العربي والاقليمي والدولي. ونشهد يومياً حراكاً متضامناً معها، وادانت العديد من الهيئات الدولية والحقوقية اعتقالها، وطالبت سلطات الاحتلال بالإفراج عنها. وتحولت الطفلة ذات الستة عشر عاماً الى رمز للنضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، وقوة التضامن الأممي مع هذا النضال واهدافه.

فلسطينياً يلفت الانتباه الاجماع المجتمعي حوالها، ويشير حجم متابعة اخبار الفتاة  وتطورات اعتقالها الى تحولها الى رمز وصورة مثالية نموذجية للنضال ضد الاحتلال، ورمز لإصرار الشعب الفلسطيني على رفض ومواجهة الاحتلال وسيطرته مهما بلغت قوته وجبروته وبطشه.

وذهب نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بعيداً في تصميم صور الطفلة ونشرها في لوحات رمزية ظهرت فيها الكثير من المفردات والمفاهيم مثل: الصلابة، القوة، الوطنية، القدرة على الصمود، التحدي، وذهب آخرون ابعد من ذلك في استخدام مفاهيم مثل: رمز، ايقونة، بطلة… الخ من المفاهيم الرمزية المعنوية التي تعبر عن عمق التقدير والاحترام لهذه الطفلة وما قامت به في مواجهة جنود الاحتلال.

جذب انتباهي صورة للفتاة وهي ترتدي الزي التراثي الفلسطيني المطرز وهي تمتطي صهوة حصان وتحمل في يدها سيف وترفع علم فلسطين، وكتب على الصورة عبارة “عهد رمز لجيل جديد من الفلسطينيين الباحثين عن الحرية”.  وعلى كل حال الصورة تخاطب الصورة المثالية المتعارف عليها في الثقافة الشعبية العربية عموماً للبطل الفارس القادم على صهوة حصانه وحاملا سيفه للقضاء على الاعداء، وتخليص المجتمع و/او الفرد من سيطرتهم وشرورهم.

لكن عند مقارنة مكانة المرأة في المجتمع بالواقع القائم والثقافة السائدة يمكننا ملاحظة الفروق القائمة والحاصلة فعلا. فصورة “عهد التميمي” هي الوجه الظاهر لصورة المرأة الفلسطينية ومكانتها في الثقافة والمجتمع الفلسطيني. اما الوجه الآخر فهو صورة مختلفة ومغايرة تماماً لذلك.

قبل عدة سنوات كتبت استاذة جامعية فلسطينية تعليقاً احتجاجياً على رفض طلبها في حينه لاستصدار بطاقة هوية لاحد ابنائها والشعور بالتمييز الذي عانته جراء ذلك. كانت صرختها في حينه تعبيرا عن التناقض القائم بين ما قدمته وتقدمه المرأة الفلسطينية من مساهمة فعالة وتضحيات في مجرى النضال الوطني الفلسطيني، وفي عملية بناء مؤسسات الدولة الواعدة في مقابل مكانة وتمييز ضدها لا يزال يجد تعبيراته في العديد من القوانين.

وتتكرر مثل تلك الصرخة حتى في هذه الايام، ونرى بين الحين والآخر نساء من مختلف الاعمار والمهن والفئات الاجتماعية يشتكين جوانب مختلفة من التمييز. ونرى نساء قياديات في مواقع اجتماعية ومهنية واكاديمية واقتصادية وسياسية يشتكين علناً من التمييز الذي واجهنه، فهذه اعلامية واستاذة  جامعية تصرخ لعدم تمكنها من فتح حساب بنكي لابنتها، واشتكت خبيرة دولية في مجال التدريب والاستشارات من عدم تمكنها من استصدار وثيقة سفر لابنتها، وعبرت ناشطة في موقع سياسي متقدم من استيائها مثلا من عدم قدرتها على التوقيع على عقد زواجها في حال كانت تريد ذلك. وهناك الكثير من الأمثلة الماثلة في واقعنا حتى الآن.

تشير احصاءات المؤسسات والهيئات المجتمعية عموماً الى مدى واسع من التمييز والعنف ضد المرأة الفلسطينية، فقد وثقت احدى المؤسسات النسوية مثلا مقتل (27) امرأة وفتاة في الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 2017. وهو مؤشر على استمرار العنف المجتمعي. اما المتتبع لتفاصيل ومجريات العنف ومؤشراته وارقامه فانه سوف يجد كماً هائلاً من الارقام والاحصاءات التي لا تزال تؤكد على حجم وانتشار الظاهرة.

رغم انضمام “دولة فلسطين” في نيسان عام 2014 الى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو” دون اية تحفظات على موادها وبنودها، الا ان التقرير الرسمي الاول الذي قدمته فلسطين الى اللجنة المعنية بالاتفاقية في الامم المتحدة في آذار عام 2017 يخلص الى مجموعة من الاستنتاجات من اهمها انه ولغاية الان لم يتم موائمة التشريعات الوطنية لتتلاءم مع المبادئ الاساسية التي وردت اتفاقية “سيداو”، رغم ان التقرير يتحدث على امتداد (75) صفحة من صفحاته عن سلسلة من الخطوات والتغييرات التي رأى فيها تقدماً على صعيد التطبيق الفعلي للاتفاقية.

ما تحدثنا عنه اعلاه يقودنا الى منابع وجذور قضية التمييز والعنف ضد النساء. فرغم تتعدد وتنوع القضايا التي ترتبط بموضوع التمييز ضد المرأة في مجمل البنية الثقافية والقانونية القائمة في المجتمع الفلسطيني. الا ان التركيز ينصب بشكل اساسي على عنوانين رئيسيين هما قانون الاحوال الشخصية وقانون العقوبات اللذان  يمكن ايجاد جذور العنف والتمييز ضد المرأة في نصوصهما السائدة والتي لا زلات سارية المفعول في الاراضي الفلسطينية.

القانون الساري حاليا هو قانون العقوبات الأردني رقم (16) للعام 1960 في الضفة الغربية وقانون العقوبات الانتدابي رقم (74) لسنة 1936. ويتضمن مجموعة من المواد والنصوص التي تعزز تبعية ودونية النساء وخاصة المرتبطة منها بظاهرة قتل النساء. وكذلك الحال بالنسبة لجرائم الايذاء داخل الاسرة. اما بالنسبة للأحوال الشخصية فان الساري حتى الآن هو قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (61) لسنة 1976 المطبق في الضفة الغربية، وقانون حقوق العائلة رقم (303) للعام 1954 في قطاع غزة. وهي اجمالاً  تتضمن الكثير من النصوص والمواد القانونية التي تميز ضد المرأة وتنتهك حقوقها في  قضايا وعناوين مثل الولاية في الزواج، حق الزواج والطلاق، سن الزواج، حضانة الأطفال، الحقوق الارثية، حقوق النفقة للزوجة والأطفال. وعموما تتضمن النصوص غياب و/او ضعف في اية مواد تضمن حتى الحماية الاقتصادية للمرأة داخل الاسرة.

لم تثمر جهود المؤسسات الحقوقية والنسوية والائتلافات والتحالفات التي تم تشكيلها خلال ال (20) سنة الاخيرة، ولم تنجح في دفع المشرع الفلسطيني الى المصادقة على مقترحات مشاريع قانون احوال شخصية وعقوبات فلسطيني، وهي مشاريع قوانين جرى التوافق عليها منذ عدة سنوات من ائتلاف واسع من المؤسسات والهيئات الاهلية والرسمية. وبقيت حتى الآن في ادراج المكاتب منذ عدة سنوات.

خلاصة القول انه رغم ان المرأة الفلسطينية شاركت ولا تزال في مجمل النضال الوطني الفلسطيني على امتداد تاريخ هذا النضال، وقدمت الكثير من التضحيات والمساهمات التي تجلت عبر اشكال وطرق مختلفة. واثبتت المرأة الفلسطينية على انها دائما على قدم المساواة مع الرجل تنخرط في معمعان هذا النضال. الا ان هذا الامر لم ينعكس ايجابا على مكانة ودور المرأة والموقع  الذي تحتله في مراكز صنع القرار على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة. ولا تزال الكثير من حقوقها وعلى رأسها حقها في المساواة تتراجع الى المراتب الدنيا في سلم الاولويات المجتمعية، الامر الذي ينعكس سلباً على قضاياها واهتماماتها الاجتماعية. وعلى رأي المثل الشعبي المتداول “الفعل لزيد والصيت لعبيد”. ففي القضايا الوطنية صورة المرأة بطلة وايقونة للنضال الوطني ورمز له، وتتراجع الى تابع ومضطهَد يعاني من التمييز عند الحديث عن القضايا الاجتماعية.

نبيل دويكات

رام الله- 24 كانون ثاني 2018

روابط النشر:

https://meemmagazine.net/2018/01/23/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b3%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%ac%d8%af%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86/

 

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *