لم اتمكن من الاجابة على سيل الاسئلة التي كان  ابني نور الدين ذو الاعوام الأربعة يمطرني بها ونحن نتجول في انحاء معتقل الفارعة. ما هذه الغرفة؟ وتلك؟ وهذه الساحة؟ وذلك الممر؟ هل كانوا يعذبونكم؟ كيف؟ هل كنتم تنامون؟ واين؟ لماذا اعتقلوك؟ ولمدة كم؟ أسئلة لا تكاد تنتهي بالنسبة لطفل يتفتح وعيه لأول مرة على مفاهيم جديدة مثل السجن، الاحتلال. ومع كل اجابة كانت تبرز اسئلة اضافية في سلسلة طويلة قد لا تنتهي عند حد معين. وهي نفس الاسئلة التي تساهم في تشكيل وعي وثقافة اجيال عديد من ابناء الشعب الفلسطيني حول واقع يعيشونه ولا يزالون يعانون منه ومن آثاره حتى الآن.

لا اعرف بالضبط ما الذي قادني في مثل هذا اليوم من أيام شهر آذار عام 2016 الى زيارة “معتقل الفارعة”، حيث تحلو  الرحلات العائلية في اجواء الربيع من كل عام. وكعادتنا  شبه الاسبوعية في يوم الجمعة من هذا الفصل وقع الاختيار صدفة هذه المرة على منطقة الفارعة، وهي منطقة الى الشمال الشرقي من مدينة نابلس، وتعتبر من المناطق المفضلة للرحلات العائلية في نهايات اشهر الشتاء والربيع بسبب طقسها الدافئ المحبب في هذا الموسم، وحيث تعتبر المنطقة امتدادا لمنطقة الاغوار الفلسطينية التي تمتد من الجنوب الى الشمال على جهة الحدود الشرقية لفلسطين حيث تنخفض عن مستوى سطح البحر وتشتهر بمياهها وخضرتها شتاءاً وربيعاً، وحرارتها المرتفعة صيفاً.

في هذه المنطقة بالذات يقع “معتقل الفارعة” على اسم المنطقة ومخيم اللاجئين المحاذي له تماماً. كنت هذه المرة بصحبة عائلتي الصغيرة إضافة الى شقيقي وعائلته ووالدتي وشقيقتاي حين استقر رأينا على زيارة مكان جديد لم نزره من قبل في رحلاتنا الأسبوعية، وهو ما قادنا  الى “معتقل الفارعة”. وقفنا على البوابة الرئيسية وطلبنا من المسئول السماح لنا  بالدخول، ولم يتردد حين اعلمته انني كنت معتقل سابقاً في هذا المكان.

كانت هذه أول مرة أدخل فيها الى ما كان يسمى “معتقل الفارعة” منذ إعادته للسيادة الفلسطينية عام 1995. وهو مركز للبوليس منذ أيام الانتداب البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي، دخلت هذا المعتقل أول مرة في شباط عام 1982 بعد عدة أيام من قيام الاحتلال بتحويله الى معتقل حتى اواسط تسعينات القرن الماضي، ودخلته في السنوات اللاحقة لذلك ثلاث مرات أخرى، وقضيت فيه ما يزيد عن ثلاثة أشهر من الاعتقال، وكان آخر  يوم لي من الاعتقال فيه هو نفس اليوم الذي تم فيه اغتيال المناضل الفلسطيني صلاح خلف “أبو إياد” في العام 1991 حيث سمّي المعتقل على اسمه حين تم اعادته الى السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1995 وفق اتفاقيات اوسلو، وجرى تحويله لاحقا الى مركز لتأهيل للقادة تابع لوزارة الشباب والرياضة.

المعتقل بناية قديمة مستطيلة الشكل، في كل ضلع من ثلاثة اضلاع منه مبنى مكون من صف طويل من الغرف والقاعات يتوسط بينها ممر للتنقل بين الاضلاع المختلفة. وفي وسط الضلع الاطول منه تماما يقع مدخل المبنى الذي يفضي الى الممر الداخلي يميناً ويساراً حيث الغرف الداخلية، وفوق المدخل تماماً كانت هناك عدة غرف على جزء من سطح المبني كانت مخصصة لمدير المعتقل. في وسط المستطيل من الداخل كان هناك حديقة مزروعة بالأشجار والنبات المختلفة. اما من ناحية الاستعمال فقد كانت الغرف والساحات تتوزع بين غرف اقامة المعتقلين، وغرف ومكاتب التحقيق، وزنازين وساحات العزل والشبح وتعذيب المعتقلين والتنكيل بهم. ويحيط ببناية المعتقل مساحة واسعة جداً من الارض محاطة بسياج من الاسلاك. وكان جزء منها يستخدم ساحة “للفورة”، وفي احد اطرافها مغسلة مياه ومراحيض خشبية لاستخدام المعتقلين عند خروجهم للفورة.

جلسنا جميعاً في الساحة الخارجية حيث جرى استحداث حديقة للأطفال ومقاعد للجلوس والتنزه فيها وتناولنا طعام الغداء ثم قمنا في جولة في انحاء المعتقل وبنايته. تولت والدتي اجابة الاطفال على اسئلتهم، وهي تشرح لهم عن اعتقالي واشقائي في هذا المعتقل والمرات التي كانت تأتي فيها لزيارتنا وما كانت تواجهه في ذلك. ولكنها لم تغفل هي الاخرى توجيه اسئلة اضافية لي ولشقيقي حول كل غرفة وساحة نمر بها وكيف كان يستعملها الجنود ولأي غرض. ووسط كل هذا السيل المنهمر من الحديث والاسئلة عادت بي الذاكرة الى بعض تفاصيل ايام اعتقالي هنا.

دخلت هذا المعتقل المرة الاولى مع مجموعة من الشبان اصدقائي عام 1982 حيث اتهمونا في حينه بكتابة شعارات ضد ما كان يسمى “روابط القرى”. قام الجنود بنقلنا بعد منتصف الليل الى مقر الإدارة العسكرية لمنطقة نابلس، ومن هناك جرى نقلنا في سيارة عسكرية تصاحبها عدة سيارات أخرى الى مقر السجن، لم نكن نعلم الى اين يصحبوننا، وكانوا أجلسونا مكبلي الأيدي الى الخلف على أرضية السيارة العسكرية والجنود يجلسون حولنا على المقاعد على جانبي السيارة، وكنا أيضاً معصبي الأعين بقطعة من القماش تلتف حول رأس كل منا، وتحجب الرؤية تماماً، وكان كل منا لا يدري بالضبط متى وكيف ولا ممن وعلى أي مكان من جسمه يمكن ان تأتيه الصفعة أو الركلة من الجنود المرافقين. أدركنا أننا وصلنا الى مكان ما حين علت أصوات الجنود المرافقين أكثر وأكثر، واختلطت بأصوات أعداد أكبر من الجنود، وبدى لنا أن السيارة توقفت تماماً، ونحن نتلمس حركة كثيفة بين الجنود وأصوات البنادق.

مضت أكثر من نصف ساعة عندما بدأ الجنود بفك قطعة القماش التي تعصب أعيننا، ثم ما لبثوا أن امرونا بالنزول من السيارة والدخول الى البناية، وهناك كان يتجمع أكثر من عشرين جندياً وكلهم يصرخون بأصوات مرتفعة: يلا امشي، وقف هون، ارفع وجهك، نزل ايدك، لف راسك باتجاه الحيط… وغيرها من الأوامر التي أضافت لذلك المشهد حالة من التوتر والقلق والترقب للخطوة التالية. ومضى الوقت بهذه الصورة خلال استكمال إجراءات الاعتقال كاستلام حاجيات المعتقلين كالساعات والنقود وأية حاجيات أخرى حتى أربطة الأحذية مروراً حتى بحزام البنطال، ثم العرض على الطبيب، وهو عسكري أيضاً. وانتهاءاً بتوزيعنا كل منا في زنزانة. تولى الجنود مهمة ابقائنا طوال الوقت المتبقي من الليل في حالة من يقظة، جولات مستمرة من التحقيق أو الاستجواب المتكرر، الطرق بالأحذية او اعقاب البنادق على أبواب الغرف في كل لحظة.

كان الجنود يصطحبون كل منا منفردا الى ساحة النزهة اليومية لعدة دقائق لقضاء الحاجة وغسل اليدين والوجه، وبعد عدة ايام اخرجونا مع بعضنا البعض في ساحة النزهة اليومية وعلمنا  حينها أننا في معتقل الفارعة من معتقلين آخرين التقيناهم في الساحة.

مرت هذه الذكريات بسرعة خلال تجوالنا في انحاء البناية، وبينما كان الاطفال يتراكضون حولنا ويلعبون ويعاودون طرح مزيد من الاسئلة، كانت زوجتي هي الاخرى تسأل عن الاماكن واستخداماتها وشقيقتي ووالدتي. كنت انا وشقيقي نجيب بعض الاسئلة. اما عن الذكريات فكانت لا تزال تدور وتدور. رغم مرارة الذكريات وايامها وتفاصيلها الصعبة الا اننا كنا جميعا نسير بفرح وغبطة لا توصف. فقد ولت تلك الايام. رحل الاحتلال وضباطه ومحققيه واعوانه عن المكان وها نحن نتجول في انحاءه في نزهة عائلية كنا نثق اننا سنصل اليها، حتى حين كنا مكبلي الايدي والارجل ومعصبي الاعين في ساحة الشبح والتعذيب وداخل زنازين هذا السجن.  كانت والدتي تسير بثقة ولسانها يكرر عبارات الشكر لله على انها عاصرت مثل هذه اللحظات.

نبيل دويكات

رام الله- 20 شباط 2018

روابط النشر:

https://meemmagazine.net/2018/03/04/%d9%81%d8%b3%d9%8a%d9%81%d8%b3%d8%a7%d8%a1-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a9-5-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%a6%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b9%d8%aa%d9%82%d9%84-%d8%a7%d9%84/

You are not authorized to see this part
Please, insert a valid App IDotherwise your plugin won't work.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *